ابـــــــــــــــــــــــــــن سينــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
"إنه لمن العدل القول بأن كتاب "القانون" شكل لفترة طويلة "الكتاب المقدس" بالنسبة لعلوم الطب أكثر من أي عمل آخر كتب في هذا المجال". (الطبيب الكندي الشهير ويليام أوسلير في كتابه: تطور الطب الحديث).
هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي بن سينا، المعروف اختصارا بابن سينا وبلقب الشيخ الرئيس. ولد في "أفشنة" إحدى القرى المتاخمة لبخارى (أوزبكستان الحالية) سنة 370هـ/980م. حفظ القرآن الكريم وضبط قواعد النحو وهو ابن عشر سنوات. كان أبوه من المقربين إلى الأمير نوح بن منصور الساماني الذي كان يهتم بالعلم ويكرم العلماء، وكثيرا ما كان يرافقه إلى مجالسهم فينصت لما يدور بينهم من حوارات بشغف كبير. كما كان مواظبا على حضور حلقات الدروس التي يعقدها الشيوخ والعلماء في مساجد المدينة في مختلف صنوف المعرفة. وعلى الرغم من أن الفتى أظهر براعة قل نظيرها في مختلف العلوم التي اطلع عليها، إلا أنه شعر بميل كبير إلى علوم الطب. فكان يعكف على قراءة الكتب بنفسه تارة، وتارات يرافق طبيبي الأمير نوح: أبي سهل المسيحي وأبي منصور ابن الأمير نوح ويستفسرهما عما استشكل عليه من مسائل حتى صار من أمهر الأطباء وأعلمهم وهو لم يتمم حوله السادس عشر بعد. ولما بلغ ابن سينا 20 سنة، أصيب في والده الذي توفي بالتزامن مع موت الأمير نوح، فرحل إلى الجرجانية وأقام فيها مدة، استطاع خلالها أن يؤلف كتابه المعلمة الذي سماه " القانون في الطب". بعد ذلك انتقل إلى همذان حيث عينه الأمير شمس الدين البويهي وزيرا له، قبل أن يستقر به المقام في أصفهان حيث حظي برعاية خاصة.
في المجال الطبي، كان منهج ابن سينا يعتمد على الملاحظة والتجريب وكان يبني تشخيص المرض على الوصف التشريحي والفيزيولوجي للعضو المصاب. وله العديد من الاكتشافات في الميدان أهمها اكتشاف الدودة المستديرة أو ما يعرف بدودة "الإنكلستوما" التي نسبت إلى الطبيب الإيطالي روبينتي بعد أزيد من 800 سنة؛ اكتشاف الفرق بين مرض اليرقان الناتج عن انحلال كرات الدم واليرقان الناتج عن انسداد القنوات الصفراوية؛ اكتشاف أنواع من المخدرات أو المرقدات التي تستعمل لتخفيف آلام المريض أثناء إجراء العمليات الجراحية؛ وصف دقيق لمرض الجمرة الخبيثة وسماها" النار المقدسة"؛ وصف جامع للسكتة الدماغية أو ما يعرف بالموت الفجائي؛ إبراز طرق انتقال بعض الأمراض العضوية المعدية كالجدري والحصبة، حيث توصل على أنها تنتقل عن طريق بعض الكائنات الحية الدقيقة الموجودة في الماء والهواء... وفي الجراحة كان لطبيبنا أيضا باع. فكان أول من اكتشف ووصف عضلات العين الداخلية وقال بأن مركز البصر موجود في العصب البصري وليس في الجسم البلوري كما كان يعتقد من قبل. كما قام بعلاج البواسير بطريقة الربط وتعامل مع حصى الكلي وبين كيفية استخراجها والمحاذير التي ينبغي مراعاتها، وقام باستئصال الأورام السرطانية في مراحلها الأولى، وأنجز عمليات جراحية على الحنجرة والقصبة الهوائية...
هذا ولم تقتصر مجالات علم وعمل الوزير على الصحة والتطبيب فقط، بل فاقت ذلك كله لتشمل ألوانا أخرى من المعرفة. ففي الفيزياء، توصل إلى أن الرؤية سابقة الصوت وتكلم عن وجود علاقة بين السمع وتموج الهواء. كما اخترع آلة لقياس الأطوال المتناهية الدقة. وفي الجيولوجيا ذكر الزلازل وفسرها بأنها حركة تصيب جزءا من أجزاء الأرض بسبب من تحته، وأن تحرك هذا السبب هو الذي يقل الحركة إلى طبقة الأرض السطحية، وقال إن الجسم الذي يمكن أن يتحرك تحت الأرض هو إما جسم بخاري قوي الاندفاع أو جسم مائي أو هوائي أو جسم ناري ملتهب. وتحدث أيضا عن السحب وكيفية تكونها، فيقول إنها ناتجة عن تعرض الأبخرة الرطبة الساخنة للطبقة الباردة من الهواء. وفي علم النبات، اهتم ابن سينا بشكل خاص بالنباتات الطبية، حيث أنجز دراسات علمية محكمة على جذور النباتات وأوراقها وأزهارها، كما تناول التربة وأنواعها والعناصر التي تؤثر في نمو النباتات. كما تطرق إلى مسألة الذكورة والأنوثة عند الأجنة وردها إلى الرجل دون المرأة. وفي مجال علوم التربية، أظهر ابن سينا عن إلمام وتفقه كبيرين. حيث اهتم بالإنسان في مختلف مراحل عمره: ركز على أهمية اختيار اسم جيد للطفل وأهمية رضاعه طبيعيا. وقال إن مرحلة ما قبل المسجد مرحلة ذهنية هامة تتحدد فيها معالم شخصية الطفل في المستقبل، واعتبر أن سن السادسة هي أنسب مرحلة ليبدأ الطفل تعليمه. كما أكد الشيخ الرئيس على مبدأ العقاب المعنوي وأنه يجب أن يتدرج من الإعراض إلى الإيحاش فالترهيب ثم التوبيخ، وأن الأصل فيه حسن التربية والإخلاص في العمل. وفي المعلم قال:" على مؤدب الصبي أن يكون بصيرا برياضة الأخلاق، حاذقا بتخريج الصبيان".
وقد ألف ابن سينا أزيد من مائة كتاب تشمل المجالات التي ذكرناها سالفا ومجالات أخرى. ومن بين هذه الكتب نذكر بعضا من المؤلفات التي أوردها الإمام الذهبي في " تاريخ الإسلام": كتاب المجموع؛ الحاصل والمحصول(عشرون مجلدة)؛ الإنصاف(عشرون مجلدا)؛ البر والإثم(مجلدان)؛ الشفاء(ثمانية عشر مجلداً)؛ القانون (أربعة عشر مجلداً وقد ترجم إلى اللغات الأوروبية وكان يدرس في كبريات جامعاتها إلى حدود القرن 19م)؛ الأرصاد الكلية؛ كتاب النجاة (ثلاث مجلدات)؛ الهداية...
ومن رسائله: القضاء والقدر؛ الآلة الرصدية؛ المنطق بالشعر؛ قصيدة في العظة والحكمة؛ تعقب المواضع الجدلية؛ مختصر أوقليدس؛ مختصر في النبض بالعجمية؛ في النهاية وأن لا نهاية؛ حي بن يقظان؛ في أنّ أبعاد الجسم غير ذاتية له؛ خطب الكلام في الهندباء...
توفي ابن سينا في همذان سنة 428هـ/1036م، ولا تزال صورته تزين كبريات قاعات جامعة باريس إلى اليوم كما أطلق اسمه على المستشفى الجامعي لجامعة باريس 13، تكريما لشخصه واعترافا بفضله على الإنسانية جمعاء.
تاريخ الميلاد: 980
تاريخ الوفاة: 1036